فصل: المسألة الأولى: منشأ نقوش البلاغة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.موعظة:

قال في روح البيان:
على العاقل أن يتمسك بحبل الشرع القويم والصراط المستقيم كي يتخلص من الغوائل والقيود ومهالك الوجود وغاية الأمر خفية لا يدري بم يختم.
قال رجل للحسن البصري: كيف أصبحت؟ قال: بخير قال كيف حالك؟ فتبسم الحسن ثم قال: لا تسأل عن حالي ما ظنك بناس ركبوا سفينة حتى توسطوا البحر فانكسرت سفينتهم فتعلق كل إنسان منهم بخشبة على أي: حال هم قال الرجل على حال شديد قال الحسن: حالي أشد من حالهم فالموت بحري والحياة سفينتي والذنوب خشبتي فكيف يكون حال من وصفه هذا يا بني فلابد من ترك الذنوب والفرار إلى علام الغيوب وفي الحديث: «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» تأمل كيف كان جزاء كل مؤمل ما أمل واعتبر كيف لم يكرر ذكر الدنيا إشعارًا بعدم اعتبارها لخساستها ولأن وجودها لعب ولهو فكأنه كلا وجود.
وانظر إلى قوله عليه السلام: «فهجرته إلى ما هاجر إليه» وما تضمن من أبعاد ما سواه تعالى وتدبر ذكر الدنيا والمرأة مع أنها منها إذ يشعر بأن المراد كل شيء في الدنيا من شهوة أو مال وإليه يرجع الأكوان وأن المراد بالحديث الخروج عن الدنيا بل وعن كل شيء تعالى يعني عن كل شيء يقبل التعلق من المال والمنال والأولاد والعيال فلابد من التعلق بمحبة الملك المتعال. اهـ.

.فوائد بلاغية:

قال في إشارات الإعجاز:
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}.
اعلم أن أساس إعجاز القرآن الكريم في بلاغة نظمه. وبلاغة النظم على قسمين:
قسم كالحلية وقسم كالحلّة:
فالأول: كاللآلئ المنثورة والزينة المنشورة والنقش المرصع. ومعدنه الذي يتحصل منه هو توخّي المعاني النحوية الحرفية فيما بين الكلم، كإذابة الذهب بين أحجار فضة. وثمرات هذا النوع هي اللطائف التي تعهد بيانها فن المعاني.
والقسم الثاني: هو كلباس عال وحلة فاخرة قدّت من أسلوب على مقدار قامات المعاني، وخيطت من قطعات خيطًا منتظمًا فيلبس على قامة المعنى أو القصة أو الغرض دفعة. وصناع هذا القسم والمتكفل به فن البيان.. ومن أهم مسائل هذا القسم التمثيل. ولقد أكثر القرآن الكريم من التمثيلات إلى أن بلغت الألف؛ لأن في التمثيل سرًا لطيفًا وحكمة عالية؛ إذ به يصير الوهم مغلوبًا للعقل، والخيال مجبورًا للانقياد للفكر، وبه يتحول الغائب حاضرًا، والمعقول محسوسًا، والمعنى مجسمًا، وبه يجعل المتفرق مجموعًا، والمختلط ممتزجا، والمختلف متحدًا، والمنقطع متصلا، والأعزل مسلّحا. وإن شئت التفصيل فاستمع معي لما يترنم به صاحب دلائل الإعجاز في أسرار بلاغته؛ حيث قال:

.فصل في مواقع التمثيل وتأثيره:

اعلم! أن مما اتفق العقلاء عليه: أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو برزت هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها ابهةً، وكسبها منقبةً، ورفع من أقدارها، وشب من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفًا، وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفًا.
فإن كان مدحًا كان أبهى وأفخمَ، وأنبلَ في النفوس وأعظمَ، وأهزَّ للعِطْف، وأسرعَ للإلف، وأجلبَ للفرح، وأغلبَ على الممتدح، وأوجَبَ شفاعة للمادح، واقضى له بغرّ المواهب والمنائح، وأسيرَ على الألسن واذكرَ، وأولى بأن تعلقه القلوب وأجدرَ.
وإن كان ذمًا كان مَسُّه أوجعَ، ومِيسمه ألذَع، ووقعه أشدَّ، وحدُّه احدَّ.
وإن كان حجاجًا كان برهانه انورَ، وسلطانه اقهرَ، وبيانه ابهَر.
وإن كان افتخارًا كان شأوه ابعدَ، وشرفه اجدَّ، ولسانه ألدَّ.
وإن كان اعتذارًا كان إلى القلوب اقربَ، وللقلوب أخلبَ، وللسخائم اسلّ، ولغرب الغضب افلَّ، وفي عُقَد العقود انفثَ، وعلى حسن الرجوع أبعثَ. وإن كان وعظًا كان أشفى للصدر، وادعى إلى الفكر، وأبلغ في التنبيه والزجر، وأجدر بأن يَجْلي الغياية، ويبصر الغاية، ويبرئ العليل، ويشفي الغليل... وهكذا الحكم إذا استقريت فنون القول وضروبه، وتتبعت أبوابه وشعوبه. انتهى.
ثم أن في الآيات الآتية دلائل إعجاز واسرار بلاغة فذكرناها هنا لمناسبتها لمسائل المقدمة الآتية.
فمثال التمثيل في مقام المدح ما ذكره القرآن الكريم في وصف الصحابة من أظل الإنسان كالسحابة والغبرة:
{وَمَثَلهُمْ فِي الاْنْجِيلِ كَزَرْعٍ اَخْرَجَ شَطْئَهُ فَازَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاستَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} وقس نظائره.
وفي مقام الذم:
{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ أن تَحْمِل عَلَيه يَلْهَثْ أو تَتْركْه يَلْهَثْ} و{مَثَل الذين حُمّلوا التورية ثم لم يحملوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحْمِلُ أسفارًا} و{اِنَّا جَعَلْنَا في اَعْنَاقِهِمْ اَغْلاَلًا فَهِيَ إلى الاْذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} وقس.
وفي مقام الاحتجاج والاستدلال:
{مَثَلهم كمثل الذي استَوقَدَ نارًا} و{او كَصَيِّبٍ مِن السماءِ فيه ظُلُماتٌ إلى آخره وومَثَلُ الذين كفروا كَمَثلِ الذي يَنْعِق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً} و{مثل الذين اتخذوا مِن دون الله اولياءَ كمثلِ العنكبوتِ اتخذتْ بيتًا} و{أنزل من السماء ماءً فسالتْ أوديةٌ بقَدَرها فاحتملَ السيلُ زبدًا رابيًا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاءَ حليةٍ أو متاع زَبَدٌ مِثْلُه} و{ضَرَبَ الله مثلًا رجلًا فيه شركاءُ مُتَشاكِسون ورجُلًا سَلَما لِرَجُلٍ هل يستويان مثلا} وقس عليه.
ونظير مثال الافتخار- وأن لم يسمّ افتخارًا- بيان عظمته تعالى وكمالاته الإلهية قوله تعالى: {وما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِه والأرضُ جَميعًا قَبْضَتُه يومَ القيامةِ والسمواتُ مطويّاتٌ بِيَمِينِهِ سبحانه وتعالى عما يشركون} وقس عليه.
ومثال التمثيل في مقام الاعتذار لايوجد إلا حكايات أهل الأعذار الباطلة للاحتجاج عليهم كقوله: {وقالوا قُلُوبُنا في اكنّة مما تدعونا إليه وفي اذانِنا وَقْرٌ ومِنْ بَيننا وبينك حِجَابٌ} وقس ومن الشعر:
لا تَحْسَبُوا أن رَقْصِي بيْنَكُمْ طَرَبٌ ** فَالطّيْرُ يَرْقُصُ مَذبُوحًا مِنَ الاْلَمِ

ومثاله من الوعظ في وصف نعيم الدنيا ما ذكره القرآن الكريم من: {كمثل غَيْثٍ أعْجَبَ الكفار نَبَاتُه ثم يَهيجُ فتريه مُصْفرًّا ثم يكون حُطامًا} و{أَلَم تَرَ أن الله انزَل مِن السماءِ ماءً فَسَلكه ينابيعَ في الأرضِ ثم يُخرِجُ بهِ زَرْعا مُختلفًا ألوانُه} و{اِنّا عَرَضْنا الأمانةَ على السمواتِ والأرضِ والجبالِ فأَبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشفقنَ مِنها وحَمَلَها الإِنسانُ إِنه كانَ ظَلُومًا جَهُولًا} و{لو أنزلْنا هذا القرآنَ على جَبَلٍ لرأيتَهُ خاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِن خَشْيَةِ الله وتِلكَ الامثالُ نَضْرِبُها للناسِ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرونَ} و{فَمَالَهُمْ عَن التَذْكِرِةِ مُعْرِضِينَ كَأنهُم حَمُرٌ مُستَنْفِرةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرة} و{مثل الذين يُنفِقونَ أَموالَهُمْ في سبيل الله كَمَثلِ حَبةٍ اَنْبَتَتْ سَبْعَ سنابلَ في كلِّ سُنْبلة مائةُ حَبَّة} و{كمثل جَنَّة بِرَبْوة اَصابها وابل}. وفي احباط العمل الصالح بالايذاء والرياء:
{أَيَوَدُّ أَحَدُكُم أن تكون له جنةٌ مِن نَخيلٍ وأَعْنابٍ تجري من تحتها الأنهارُ له فيها مِن كلِّ الثَّمَراتِ وأَصابَه الكِبَرُ وله ذُريةٌ ضُعَفاء فأصابَها إعصارٌ فيه نارٌ فاحْتَرَقَتْ} و{مثلُ الذينَ كَفَروا بِرَبِّهِمْ اعمالُهم كَرَمادٍ اشتدتْ به الريحُ في يومٍ عاصفٍ لايَقدِرونَ مِما كَسَبوا عَلى شيءٍ ذلك هو الضلالُ البعيدُ}.
ومثاله من طبقات الكلام في مقام الوصف:
{ثمَّ استوى إلى السماءِ وهي دخانٌ فقالَ لها وللأرض ائتيا طَوْعًا أو كرهًا قَالتا أَتَيْنا طائِعين} و{قيلَ يا أرضُ ابلَعي ماءَك ويا سماءُ اقلعي وغيضَ الماء وقُضِيَ الأمر واستوتْ على الجُوديّ وقيلَ بُعدًا للقومِ الظالِمين} و{اَلَمْ تَرَ كيفَ ضَرَبَ الله مَثَلًا كلمةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ اصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء تُؤتي أُكُلَها كلَّ حِينٍ بإِذنِ رَبِّها} و{ومثلُ كلمةٍ خبيثةٍ كشجرةٍ خبيثةٍ اجتُثَّتْ مِن فوقِ الأرضِ مَالَها مِن قَرارٍ}.
ومن الشعر:
والليل تجري الدراري في مجرته ** كالروض تطفو على نهر أزاهيره

اعلم! أن في كل آية من هذه الآيات التمثيلية طبقاتٍ ومراتبَ وصورًا وأساليبَ متنوعة. كلٌ منها- في كلٍ منها- كفيل وضامن لطائفة من الحقائق. وكما إنك إذا أخذت قوارير من فضة وزيّنتها بذوب الذهب، ثم نقشتها بجواهرَ، ثم صيّرتها ذوات نور بإدراج الكتريق ترى فيها طبقات حسن وانواعَ زينة؛ كذلك في كل من تلك الآيات من المقصد الأصليّ إلى الأسلوب التمثيليّ قد شرعت إشارات ومُدّت رموز إلى مقامات كأن أصل المقصد تدحرج على المراتب وأخذ من كلٍ لونًا وحصة حتى صارت تلك الكلمات من جوامع الكلمات بل من جمع الجوامع.
قال في إشارات الإعجاز:
فصل ومقدمة:
اعلم! أن المتكلم كما يفيد المعنى ثم يُقْنِع العقل بواسطة الدليل؛ كذلك يلقي إلى الوجدان حسِّياتٍ بواسطة صور التمثيل فيحرك في القلب الميل أو النفرة ويهيئُه للقبول. فالكلام البليغ ما استفاد منه العقل والوجدان معًا، فكما يتداخل إلى العقل يتقطر إلى الوجدان أيضا. والمتكفل لهذين الوجهين التمثيلُ؛ إذ هو يتضمن قياسًا وينعكس به في مرآة الممثل القانون المندمج في الممثل به. فكأنه دعوى مدلَّل. كما تقول في رئيس يكابد البلايا لراحة رعيته: «الجبل العالي يتحمّل مشاقّ الثلج والبَرَد، وتخضرّ من تحته الأودية».
ثم أن أساس التمثيل هو التشبيه. ومن شأن التشبيه تحريك حسّ النفرة أو الرغبة أو الميلان أو الكراهية أو الحيرة أو الهيبة؛ فقد يكون للتعظيم أو التحقير أو الترغيب أو التنفير أو التشويه أو التزيين أو التلطيف إلى آخره... فبصورة الأسلوب يوقَظ الوجدان وينبَّه الحسُّ بميلٍ أو نفرة.
ثم إن مما يحوِّج إلى التمثيل عمق المعنى ودقته ليتظاهر بالتمثيل، أو تفرّق المقصد وانتشاره ليرتبط به. ومن الأوّل متشابهات القرآن الكريم؛ إذ هي عند أهل التحقيق نوع من التمثيلات العالية وأساليب لحقائق محضة ومعقولات صرفة؛ ولأن العوام لايتلقون الحقائق في الأغلب إلا بصورة متخيلة، ولا يفهمون المعقولات الصرفة إلا بأساليب تمثيلية لم يكن بدّ من المتشابهات ك {اِسْتوى عَلَى الْعَرْشِ} لتأنيس اذهانهم ومراعاة أفهامهم.
ثم إني استخرجت- فيما مضى من الزمان- من اسّ اَساس البلاغة مقدِّمة لبيان إعجاز القرآن الكريم ثنتي عشرة مسألة. كل منها خيط لحقائق. ولما ذكرت هذه الآيات التمثيلية هنا- دفعةً- ناسب تلخيص تلك المسائل فنقول وبالله التوفيق:

.المسألة الأولى: منشأ نقوش البلاغة:

إن منشأ نقوش البلاغة إنما هو نظم المعاني دون نظم اللفظ كما جرى عليه اللفظيون المتصلفون، وصار حب اللفظ فيهم مرضًا مزمنًا إلى أن رد عليهم عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز واسرار البلاغة، وحصر على المناظرة معهم أكثر من مائة صحيفة.
ونظمُ المعاني: عبارة عن توخي المعاني النحوية فيما بين الكلمات. أى إذابة المعاني الحرفية بين الكلم لتحصيل النقوش الغريبة. وأن أمعنت النظر لرأيت أن المجرى الطبيعيّ للأفكار والحسيات إنما هو نظم المعاني. ونظم المعاني هو الذي يشيّد بقوانين المنطق.. وأسلوب المنطق هو الذي يتسلسل به الفكر إلى الحقائق.. والفكر الواصل إلى الحقائق هو الذي ينفذ في دقائق الماهيات ونسبها.. ونسب الماهيات هي الروابط للنظام الأكمل.. والنظام الأكمل هو الصَدَف للحُسن المجرد الذي هو منبع كل حسن.. والحسن المجرد هو الروضة لأزاهير البلاغة التي تسمى لطائف ومزايا.. وتلك الجنة المزهرة هي التي يجول ويتنزّه فيها البلابل المسمّاة بالبلغاء وعشاق الفطرة.. واولئك البلابل نغماتهم الحلوة اللطيفة إنما تتولد من تقطيع الصدى الروحاني المنتشر من أنابيب نظم المعاني.
والحاصل: أن الكائنات في غاية البلاغة قد أنشأها وأنشدها صانعُها فصيحةً بليغة، فكل صورة وكل نوع منها- بالنظام المندمج فيه- معجزة من معجزات القدرة. فالكلام إذا حذا حذو الواقع، وطابق نظمُه نظامَه حاز الجزالة بحذافيرها. وإلا فإن توجَّه إلى نظم اللفظ وقعَ في التصنع والرياء كأنه يقع في أرض يابسة وسراب خادع.
والسرّ في الانحراف عن طبيعة البلاغة انه:
لما انجذب واستعرب العجم بجاذبة سلطنة العرب صارت صنعة اللفظ عندهم اهمّ، وفسد بالاختلاط مَلَكة الكلام المُضَريّ التي هي أساس بلاغة القرآن الكريم، وتلون معكس أساليب القرآن الكريم؛ وإنما معدنها من حسّيات قوم مُضَر ومزاجهم. فاستهوى حب اللفظ كثير من المتأخرين.
تذييل: تزيين اللفظ إنما يكون زينة إذا اقتضته طبيعةُ المعاني. وشعشعة صورة المعنى إنما تكون حشمةً له إذا أَذِن به المآل. وتنوير الاسلوب إنما يكون جزالة إذا ساعده استعدادُ المقصود. ولطافة التشبيه إنما تكون بلاغة إذا تأسّست على مناسبة المقصود وارتضى به المطلوب. وعظمةُ الخيال وجولانُه إنما تكون من البلاغة إذا لم تؤلم الحقيقةَ ولم تثقل عليها ويكون الخيال مثالا للحقيقة متسنبلا عليها. وإن شئت الأمثلة الجامعة لتلك الشرائط فعليك بتلك الآيات التمثيلية المذكورة.

.المسألة الثانية: السحر البياني وأثره في الكلام:

إن السحر البياني إذا تجلى في الكلام صيّر الأعراض جواهرَ والمعانيَ أجساما والجمادات ذواتِ أرواح والنباتاتِ عقلاءَ، فيوقِع بينها محاورة قد تنجرّ إلى المخاصمة، وقد تُوصل إلى المطايبة فترقص الجمادات في نظر الخيال. وإن شئت مثالا فادخل في هذا البيت.
يُنَاجِيني الإِخْلاَفُ مِنْ تَحْتِ مَطْلِهِ ** فَتَخْتَصِمُ الآمَالُ وَالْيَأْسُ في صَدْرِي

او استمع معاشقة الأرض مع المطر في:
لابن المعتز دلائل الإعجاز وفي ديوان ابن المعتز:
تجاذبنى الاطراف بالوصل والقلى

تَشَكَّى الأرض غَيْبَتَهُ إليه ** وَتَرْشُفُ مَاءَهُ رَشْفَ الرُضاب

فهذه الصورة إنما تسنبلت على تصوّت الأرض اليابسة بنزول المطر بعد تأخر. ولابد في كل خيال من نواة من الحقيقة نظير هذا المثال، ولابد في زجاجة كل مجاز من سراج الحقيقة، وإلا كانت بلاغته الخيالية خرافة بلا عرق لا تفيد إلا حيرة.